رسالة إلى مسيء في وضوئه
--شريفة الغامدي--
همسةٌ في أُذنك يا من تلمسُ الماءَ لمسًا بأطراف أناملك، تخشى رعشات البُرُودة في جسدكَ، فتنثر قطرات منه نثرًا على وجهكَ، لا تكاد تلامس إحداها بشرتكَ، أخشيتَ لمسات البرد القاسية عليها؟! فاحذر أخي، واخش عليها من يومٍ أشدَّ بردًا وأقسى!
توقف لحظة وتفكر بشدة في قرّ جهنم وزمهريرها، وهل تطيق بشرتُك المترفة الصبر عليها، فاحرص على تجنيبها ذلك الجزاء، واعمل على إسباغ وضوئِك على بدنكَ؛ لترفع درجتك، وتحط وِزْرك.
أوَلَم تعلم أن إسباغ الوضوء في شدة البرد مما يَمْحو الخطايا، ويرفع الدرجات؟ اسمع ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟))، قالوا: بلى، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره))[1]، أوليس الماء البارد في شدة البرد من المكاره؟! أوَلَيس المرض من المكاره؟!
أحسن وضوءَك تتساقطْ ذنوبُك؛ فالوضوء كفارةٌ وعبادة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأ العبدُ المسلم فغسل وجهه، خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه، خرج من يديه كلُّ خطيئة بطشتْها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه، خرجت كل خطيئة مشتْها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب))[2].
فهل يشق على نفسك أن تجعل تلك الخطايا والذنوب التي أثقلتْ جسدك تتناثر عنه؟!
والوضوء نورٌ ووضاءة، فهل تفكرتَ فيما تضفيه قطرات الماء السابغة على وجهك من بهاء وضياء منبعه رضا الرحمن، إن هذا الوضوء سِمة هذه الأمة وعلامتهم يوم القيامة، وبأثره يعرفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: كيف تعرف مَن لَمْ يأتِ بعد مِن أمتك يا رسول الله؟ فقال: ((أرأيت لو أن رجلاً له خيلٌ غرٌّ مُحَجَّلَةٌ بين ظهري خيل دُهْمٍ بُهْمٍ، ألا يعرف خيله؟))، قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: ((فإنهم يأتون غُرًّا مُحَجَّلين من الوضوء، وأنا فَرَطُهم على الحوض))[3]، فوجوههم وأطرافهم ابيضتْ واستنارتْ مِن أثَر الوضوء، حتى أضحى الطهْرُ في أجسادهم علامتهم الفارقة، وحليتهم السابغة، و((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء))[4]، فتطهَّر أخي، وأطل غرَّتك، وأسبغ الضياء على أعضائِك، واجعل الطهر حليتك - يحببك الله تعالى؛ ﴿ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾[5]، فتطهر بالماء، وتطهر بالتوبة، وتطهر بتساقطِ ذنوبك، تطهَّرْ قبل الموت لتلقى ربك طاهرًا، فالمرء يُبْعَث على ما مات عليه.
أسبغْ وضوءَك تُفتح لك أبوابُ الجنان؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلمٍ يتوضأ فيحسِن وضوءَه، ثم يقوم فيصلِّي ركعتين مُقبِلاً عليها بقلبه ووجهه، إلا وَجَبَت له الجنة)).
توضأ لصلاتك، وتوضأ لتلاوةِ وردك، وتوضأ عند غضبك، وتوضأ قبل نومك، وتوضأ عند استيقاظك، واجعل جسدك دائمًا على طهارة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن بات طاهرًا بات في شعاره مَلَكٌ، فلا يستيقظ من الليل إلا قال المَلَكُ: اللهم اغفِرْ لعبدك كما بات طاهرًا))[6].
أحسن وضوءك يا أخي، ولا ترش الماء رشًّا على أعضائك، بل أسبغه عليها لتنشط جوارحُك للعبادة، فتقف أمام ربك نشيطًا طاهرًا متَحَصِّنًا من الشيطان، فالوضوء الصالح يطرده عنك كما أخبر الفاروق - رضي الله عنه.
أحسن وضوءك، و"توضأ كما أمرك الله"؛ ليقبل منك وضوءَك، وتُقبل منك عبادتك.
أحسن النية، ثم سم الله، ثم اغسل يديك ثلاثًا مبتدءًا باليُمنى، ثم تمضمض واستنشق بغرفة واحدة من كفّك اليمنى للفم والأنف ثلاثًا.
واغسل وجهك ثلاثًا، بدءًا من منابت الشعر في مقدم الرأس وحتى نهاية الذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأخرى عرضًا.
ثم اغسل اليدين ثلاثًا من أطراف الأصابع إلى المرفقين واشملهما بالوضوء، ثم امسح الرأس ومنه الأذنان مرة واحدة من مقدمة الرأس إلى القفا.
ثم اغسل الرجلين إلى الكعبين ثلاثًا، بدءًا من رؤوس الأصابع وحتى الكعبين ولا تنسهما، بل أسبغ وضوءك، وأشملهما به؛ فـ"ويل للأعقاب من النار"[7].
دعا عثمان - رضي الله عنه - الصحابة فاجتمعوا إليه، فدعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مراتٍ، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، ثم تمضمض، واستنشق، واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاثًا، ثم قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ نحو وضوئي هذا، وقال: ((مَن توضأ نحو وضوئي هذا وصلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه))[8].
فإذا انتهيت من وضوئك كاملاً - كما علمك نبيك، صلى الله عليه وسلم - فلا تنس سنته القولية؛ لتفتح لك أبواب الجنة الثمانية؛ ((ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء))[9]، وفي رواية للإمام الترمذي: ((اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين)).
ولك أن تقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك"، فمن توضأ ففرغ من وضوئه ثم قالها، كتب في رقٍّ وطبع عليه بطابع، ثم رفعت تحت العرش فلم يكسر إلى يوم القيامة[10].
أما وقد علمت كيف تسبغ وضوءك، فلا بد من أمور تحرص عليها في وضوئك، فاحرص على الترتيب فيه، فلا تقدم عضوًا على سابقه، وعليك بالموالاة، فلا تجعل بعض الأعضاء تجف قبل أن تنتهي من وضوئك.
وابتعد عن الإسراف في ماء الوضوء، وخُذ منه قدر حاجتك؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يتوضأ بالمُد"[11].
واحرص على طهارة الماء وإباحته؛ فبالماء الطاهر يجب الوضوء.
بُني تَوَضَّأْ بِمَاءٍ طَهُورْ
فَمَاءُ الوُضُوءِ لِوَجْهِكَ نُورْ
ارجوا ان ينال الموضوع اعجابكم
تقبلوا تحياتي